تعقيبات على رسالة :
» التحقيقات الصائبة ...لدفع
الشبهات الغالبة...مما في كتاب
الملة الغائبة... »
لعبد الحفيظ بن محمد
كلمة «اقتضاء» لا تعني الغاية والهدف، ولكن تعني حتمية وجود الشيء لإيجاد غيره، فهو شرط له، ومن قال أن غاية الدين هي تكفير الكافر أو حتى الاعتقاد بإسلام المسلم؟! فما هو إلا ضابط وحدّ يعرف به من هو من أهل هذا الدين من غيره، وإنما غاية الدين هي تعبيد الناس لله وحده.
فإن النبي -صلى الله عليه وسلم– بعث بهذا الدين ليقيمه في الأرض، بحيث لا يقام إلا بإقامة العباد له، ومن جهة أخرى ليقيم الحجة على مخالفيه، وفي بداية الدعوة لإقامة هذا الدين كان يدعو لتحقيق الإيمان، وهو الإيمان بالله، بحيث لا يتحقق إلا بأربعة وسائل، وهي معرفة الله والعلم به والدعوة إليه ثم الصبر على الأذى فيه، فإذا بلغ آخر هذه المراتب إيمانا واحتسابا كان مؤمنا ونبذ الكفر وراء ظهره، وكل من آمن بالله ورسوله-صلى الله عليه وسلم-علم بأن مخالفه كان كافرا مشركا.
هذا هو المفروض لكنه كلام نظري مع الأسف الشديد، فأنتم تعتقدون بأن الناس مسلمون أصلا، فتدعونهم للانتقال من الإسلام إلى الكفر وهم مسلمون فـي نظركم من قبل ومن بعـد، وهم يعبدون القبور ويتحاكمون إلى الطاغوت بذريعة الجهل التي لم تقدروا على الاستدلال عليها.
فإن كانوا مسلمين فإن دعوتكم إياهم إلى التوحيد باطلة أو زائدة عن المطلوب، فهم من أهل الجنة لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تدخل الجنة إلا نفس مسلمة» (رواه مسلم وأحمد والترمذي).
وهم قد حققوا الإسلام بقولهم: «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، وفي غنى عن دعوتكم، نسأل الله أن يلهمنا رشدنا.
والنبي -صلى الله عليه وسلم– يعلم أن الذين بعث إليهم كانوا جميعا على الكفر سواء بعلمهم أو بجهلهم، ولو كان اقتضاء الدين تكفيرهم لكان يكفيه أن يخاطبهم بأنهم معشر الكفار، أو كان يكتفي أن يكفرهم مع العلم أنه يعلم أنهم على الكفر في نفسه دون مخاطبتهم، لأن تكفير الكافر لا يقتضي إسماع وإبلاغ كل واحد بأنه كافر أو هو على الكفر، لأننا نؤمن بكفر فرعون وقارون وآزر والنمرود و...وهم الأمم السالفة .
كما أن تكفير الكافر لا يعني إسماعه بأنه كافر كذلك لا يعني من جهة أخرى إسماعه بأنه مسلم أو الاعتقاد بأنه مسلم.
وأن موسى-عليه السلام- لما بعثه الله إلى فرعون قال له:« اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشـى» فإن موسى-عليه السلام-علـم وعـرف
وأيقـن بطغيان فرعون، يعني أنه علم بكفر فرعون، وهذا من موسى تكفير لفرعون، لأن الله أقره على ذلك مع العلم أن كفر فرعون أكبر لكونه ادعى الألوهية لقوله - تعالى-: «ما علمت لكم من إله غيري».
مع كل هذا لم يقم من الدين شيئا لأنه ليس من الأسس التي يقام بها الدين، فعلمنا أن الدين يقوم بمقتضى الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة واللين وإقامة الحجة والبرهـان والبينة، ليحيى من حي عن بيئة و ليهلك من هلك عن بينة.
وهذا الذي لمسناه في دعوته -صلى الله عليه وسلم- حيث كان يقول: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»، وأقره عليه الله –تعالى- بقوله: «ولو كنت فضا غليظ القلب لانفضوا من حولك»، وهذا لكونه أرسل« رحمة للعالمين».
هذا دليل عليكم فموسى -عليه السلام- عامل فرعون بلين ويسر مع أنه يعتقد بكفره قبل إقامة الحجة، لأنه عرف كفره من قوله وعمله، وأنتم تقولون بأن الحكمة تقتضي عدم الاعتقاد في كفر الكفار، أي أن تكفير المدعوين غلظة وفضاضة، وأن التيسير والرحمة إدخالهم في مسمَّى المسلمين!
فعلمنا أن إقامة الدين ليس هو تكفير الكافر، وإنما له وجه في الشك في كون الكافر كافرا بحيث ديننا دين اليقين، وليس دين الشك، واليقين لا يتحقق إلا بإقامة الحجة.
وكذلك اقتضاء الدين مخالفة الكفار والمشركين، لأن الحجة إذا قامت على اليهود والنصارى على كونهم على غير دين الله الحق الذي بعث به جميع الأنبياء –صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- اقتضى على المؤمنين مخالفتهم في عقائدهم وشرائعهم وعباداتهم، وهذه المخالفة في الظاهر لأن التشبه بهم في الباطن لا يبقيهم على إيمانهم، لأن التشبه بهم في الباطن في القضايا الظاهرية لا يخرجهم من ملة الإسلام، بل يخشى أن تقودهم لاحقا إلى التشبه بالقلوب الذي يبدل الأصول و يدنسها، وهذا التشبه المظهري قد يخرج صاحبه من الملة لاحقا، وقد لا يخرجه من الملة، لكنه يأثم لكونه سار على نهجهم، فمثلا من قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لتتبعن سنن من كان قبلكم...» هذا الإتباع لا يوجب الكفر والشرك إلا إذا انتهى صاحبه إلى حد الشرك والكفر من بعد إقامة الحجة بالحكمة والموعظة الحسنة.
التشبه بالكفار الذي يخرج المسلم من الإسلام ويبدل الأصول ويدنسها –كما تقول– قد يكون باطنيا وظاهريا أيضا، فمن عبد الصليب أو اتبع مذاهب العلمانية فهو كافر بمجرد التشبه بهم في الظـاهر من القول والفعل، بخلاف من تشبه بهم في اللباس مثلا، والأمر الأول أولى بالإيضاح من هذا لاسيما اليوم، ولا يصح الجمع بينهما فنقول أنه لا يكفر بالظاهر إطلاقا حتى يعتقد بالقلب، فالكفر لا ينحصر في الباطن.
كما هو الشأن بالنسبة لفاحشة الزنى فإن الله -تعالى- قال: «ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا»، فدلت هذه على أن الله لم يحرم الوقوع في فاحشة الزنى فحسب بل حرم طريقها، لأنها حتما ستؤدي إليه أو ربما ستؤدي إليه على أي حال فسبيلها سيء، فمن يتضح على من سلك سبيلها لا يجب في حقه الحد إلا إذا وقع في فاحشة الزنى، وهذا ما بينه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في قوله: «العينان تزنيان وزناهما النظر واليدان تزنيان وزناهما اللمس والفرج يصدق ذلك أو يكذبه».
فالعين واليد من وسائل الزنى فإن من نظر إلى حرام ولمس حراما لا يترتب عليه الحد... ومن مارس هذه الوسائل سواء جهلا بأحكامها أو شهوة أو تقصيرا أو ضعفا عن مقاومتها لا يكون ممن يقام عليهم الحد، هذا بالنسبة لهذه الفاحشة التي هي من أعظم الذنوب بعد الشرك، فكذلك بالنسبة للكفر له سبيل تؤدي إليه، فظاهرها يكون كفرا أما باطنها قد يكون كفرا وقد يكون إسلاما، فليس كل مسلم سلك سبيل الكفر يكون كافرا، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: « بين العبد والكفر ترك الصلاة فمن تركها فقد كفر».
بالله شيئا دخل الجنة» (رواه البخاري ومسلم) بالجوارح أو